فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال البقاعي:

ولما كانت هذه العبارة كما ترى معجزة في صحة معناها ودقة إشارتها وغزير مفهوماتها قال سبحانه وتعالى مرغبًا في علو الهمم {يا أولي الألباب} أي العقول التي تنفع أصحابها بخلوصها مما هو كالقشر لأنه جمع لب. قال الحرالي: وهو باطن العقل الذي شأنه أن يلحظ أمر الله في المشهودات كما شأن ظاهر العقل أن يلحظ الحقائق من المخلوقات، فهم الناظرون إلى ربّهم في آياته. انتهى.
ثم علل ذلك بقوله: {لعلكم تتقون} أي الله بالانقياد لما شرع فتتحامون القتل. قال الحرالي: وفي إبهام لعل التي هي من الخلق كما تقدم تردد إعلام بتصنيفهم صنفين بين من يثمر ذلك له تقوى وبين من يحمله ذلك ويزيده في الاعتداء. انتهى.

.قال السيوطي:

وقوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة}.
فإن معناه كثير ولفظه قليل، لأن معناه أن الإنسان إذا علم أنه متى قتل قتل كان ذلك داعيًا إلى أن لا يقدم على القتل، فارتفع بالقتل الذي هو القصاص كثير من قتل الناس بعضهم لبعض، وكان ارتفاع القتل حياة لهم.
وقد فضلت هذه الجملة على أوجز ما كان عند العرب في هذا المعنى وهو قولهم: القتل أنفى للقتل بعشرين وجهًا أو أكثر.
وقد أشار ابن الأثير إلى إنكار هذا التفضيل.
وقال: لا تشبيه بين كلام الخالق وكلام المخلوق، وإنما العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك.
الأول: أن ما يناظره من كلامهم وهو قولهم القصاص حياة أقل حروفًا، فإن حروفه عشرة وحروف القتل أنفى للقتل أربعة عشر.
الثاني: أن نفي القتل لا يستلزم الحياة، والآية ناصة على ثبوت التي هي الغرض المطلوب منه.
الثالث: أن تنكير حياة يفيد تعظيمًا، فيدل على أن في القصاص حياة متطاولة كقوله تعالى ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ولا كذلك المثل، فإن اللام فيها للجنس ولذا فسروا الحياة فيها بالبقاء.
الرابع: أن الآية فيها مطردة، بخلاف المثل فإنه ليس كل قتل أنفى للقتل، بل قد يكون أدعى له وهوالقتل ظلمًا، وإنما ينفيه قتل خاص وهوالقصاص ففيه حياة أبدًا.
الخامس: أن الآية خالية من تكرار لفظ القتل الواقع في المثل، والخالي من التكرار أفضل من المشتمل عليه وإن لم يكن مخلًا بالفصاحة.
السادس: أن الآية مستغنية عن تقدير محذوف، بخلاف قولهم فإن فيه حذف من التي بعد أفعل التفضيل وما بعدها، وحذف قصاصًا مع القتل الأول وظلمًا مع القتل الثاني، والتقدير: القتل قصاصًا أنفى للقتل ظلمًا من تركه.
السابع: أن في الآية طباقًا، لأن القصاص يشعر بضد الحياة بخلاف المثل.
الثامن: أن الآية اشتملت على فن بديع وهوجعل أحد الضدين الذي هو الفناء والموت محلًا ومكانًا لضده الذي هو الحياة، واستقرار الحياة في الموت مبالغة عظيمة، ذكره في الكشاف، وعبر عنه صاحب الإيضاح بأنه جعل القصاص كالمنبع للحياة والمعدن لها بإدخال في عليه.
التاسع: أن في المثل توالي أسباب كثيرة خفيفة وهوالسكون بعد الحركة وذلك مستكره، فإن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكن اللسان من النطق به وظهرت بذلك فصاحته، بخلاف ما إذا تعقب كل حركة سكون فالحركات تنقطع بالسكنات، نظيره إذا تحركت الدابة أدنى حركة فحبست ثم تحركت فحبست لا تطيق إطلاقها ولا تتمكن من حركتها على ما تختاره فهي كالمقيدة.
العاشر: أن المثل كالتناقض من حيث الظاهر لأن الشيء لا ينفي نفسه.
الحادي عشر: سلامة الآية من تكرير قلقلة القاف الموجب للضغط والشدة وبعدها عن غنة النون.
الثاني عشر: اشتمالها على حروف متلائمة لما فيها من الخروج من القاف إلى الصاد، إذا القاف من حروف الاستعلاء والصاد من حروف الاستعلاء والإطباق، بخلاف الخروج من القاف إلى التاء التي هي حرف منخفض فهوغير ملائم للقاف، وكذا الخروج من الصاد إلى الحاء أحسن من الخروج من اللام إلى الهمزة لبعد ما دون طرف اللسان وأقصى الحلق.
الثالث عشر: في النطق بالصاد والحاء والتاء حسن الصوت، ولا كذلك تكرير القاف والتاء.
الرابع عشر: سلامتها من لفظ القتل المشعر بالوحشة، بخلاف لفظ الحياة فإن الطباع أقبل له من لفظ القتل.
الخامس عشر: أن لفظ القصاص مشعر بالمساواة فهومنبئ عن العدل، بخلاف مطلق القتل.
السادس عشر: الآية مبنية على الإثبات والمثل على النفي، والإثبات أشرف لأنه أول والنفي ثان عنه.
السابع عشر: أن المثل لا يكاد يفهم إلا بعد فهم أن القصاص هو الحياة.
وقوله: {في القصاص حياة} مفهوم من أول وهلة.
الثامن عشر: أن في المثل بناء أفعل التفضيل من فعل متعد والآية سالمة منه.
التاسع عشر أن أفعل في الغالب يقتضي الاشتراك فيكون ترك القصاص نافيًا للقتل، ولكن القصاص أكثر نفيًا وليس الأمر كذلك، والآية سالمة من ذلك.
العشرون: إن الآية رادعة عن القتل والجرح معًا لشمول القصاص لهما، والحياة أيضًا في قصاص الأعضاء لأن قطع العضو ينقص أوينغص مصلحة الحياة وقد يسري إلى النفس فيزيلها، ولا كذلك المثل في أول الآية ولكم وفيها لطيفة وهي بيان العناية بالمؤمنين على الخصوص، وأنهم المراد حياتهم لا غيرهم لتخصيصهم بالمعنى مع وجود فيمن سواهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {في القصاص حياة} من جوامع الكلم فاق ما كان سائرًا مسرى المثل عند العرب وهو قولهم: القتل أَنْفَى لِلْقَتْل وقد بينه السكاكي في مفتاح العلوم وذيله من جاء بعده من علماء المعاني، ونزيد عليهم: أن لفظ القصاص قد دل على إبطال التكايل بالدماء وعلى إبطال قتل واحد من قبيلة القاتل إذا لم يظفروا بالقاتل وهذا لا تفيده كلمتهم الجامعة. اهـ.
أما قوله تعالى: {يا أُوْلِي الألباب} فالمراد به العقلاء الذين يعرفون العواقب ويعلمون جهات الخوف، فإذا أرادوا الإقدام على قتل أعداءهم، وعلموا أنهم يطالبون بالقود صار ذلك رادعًا لهم لأن العاقل لا يريد إتلاف غيره بإتلاف نفسه فإذا خاف ذلك كان خوفه سببًا للكف والامتناع، إلا أن هذا الخوف إنما يتولد من الفكر الذي ذكرناه ممن له عقل يهديه إلى هذا الفكر فمن لا عقل له يهديه إلى هذا الفكر لا يحصل له هذا الخوف، فلهذا السبب خص الله سبحانه بهذا الخطاب أولي الألباب. اهـ.
في تفسير الآية قولان أحدهما: قول الحسن والأصم أن المراد لعلكم تتقون نفس القتل بخوف القصاص والثاني: أن المراد هو التقوى من كل الوجوه وليس في الآية تخصيص للتقوى، فحمله على الكل أولى: ومعلوم أن الله تعالى إنما كتب على العباد الأمور الشاقة من القصاص وغيره لأجل أن يتقوا النار باجتناب المعاصي ويكفوا عنها، فإذا كان هذا هو المقصود الأصلي وجب حمل الكلام عليه. اهـ.
قال ابن عاشور:
وفي قوله تعالى: {يا أولي الألباب} تنبيه بحرف النداء على التأمل في حكمة القصاص ولذلك جيء في التعريف بطريق الإضافة الدالة على أنهم من أهل العقول الكاملة؛ لأن حكمة القصاص لا يدركها إلاّ أهل النظر الصحيح؛ إذ هو في بادئ الرأي كأنه عقوبة بمثل الجناية؛ لأن في القصاص رزية ثانية لكنه عند التأمل هو حياة لا رزية للوجهين المتقدمَيْن.
وقال: {لعلكم تتقون} إكمالًا للعلة أي تقريبًا لأن تتقوا فلا تتجاوزوا في أخذ الثأر حدَّ العدل والإنصاف. ولعل للرجاء وهي هنا تمثيل أو استعارة تبعية. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَكُمْ فِي القصاص حياة} عطف على قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 178] والمقصود منه توطين النفس على الانقياد لحكم القصاص لكونه شاقًا للنفس وهو كلام في غاية البلاغة وكان أوجز كلام عندهم في هذا المعنى القتل أنفى للقتل وفضل هذا الكلام عليه من وجوه، الأول: قلة الحروف، فإن الملفوظ هنا عشرة أحرف إذا لم يعتبر التنوين حرفًا على حدة وهناك أربعة عشر حرفًا، الثاني: الاطراد، إذ في كل قصاص حياة وليس كل قتل أنفى للقتل فإن القتل ظلمًا أدعى للقتل. الثالث: ما في تنوين حياة من النوعية أو التعظيم. الرابع: صنعة الطباق بين القصاص والحياة فإن القصاص تفويت الحياة فهو مقابلها. الخامس: النص على ما هو المطلوب بالذات أعني الحياة فإن نفي القتل إنما يطلب لها لا لذاته. السادس: الغرابة من حيث جعل الشيء فيه حاصلًا في ضده، ومن جهة أن المظروف إذا حواه الظرف صانه عن التفرق، فكان القصاص فيما نحن فيه يحمي الحياة من الآفات. السابع: الخلوّ عن التكرار مع التقارب، فإنه لا يخلو عن استبشاع، ولا يعد ردع العجز على الصدر حتى يكون محسنًا. الثامن: عذوبة اللفظ وسلاسته حيث لم يكن فيه ما في قولهم من توالي الأسباب الخفيفة إذ ليس في قولهم: حرفان متحركان على التوالي إلا في موضع واحد، ولا شك أنه ينقص من سلاسة اللفظ وجريانه على اللسان، وأيضًا الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة لبعد الهمزة من اللام وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام التاسع: عدم الاحتياج إلى الحيثية، وقولهم: يحتاج إليها. العاشر: تعريف القصاص بلام الجنس الدالة على حقيقة هذا الحكم المشتملة على الضرب والجرح والقتل وغير ذلك، وقولهم: لا يشمله الحادي عشر: خلوه من أفعل الموهم أن في الترك نفيًا للقتل أيضًا. الثاني عشر: اشتماله على ما يصلح للقتال وهو الحياة بخلاف قولهم، فإنه يشتمل على نفي اكتنفه قتلان، وإنه لمما يليق بهم. الثالث عشر: خلوّه عما يوهمه ظاهر قولهم من كون الشيء سببًا لانتفاء نفسه وهو محال إلى غير ذلك فسبحان من علت كلمته، وبهرت آيته ثم المراد بالحياة إما الدنيوية وهو الظاهر لأن في شرع القصاص والعلم به يروع القاتل عن القتل، فكيون سبب حياة نفسين في هذه النشأة، ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل، والجماعة بالواحد، فتثور الفتنة بينهم، وتقوم حرب البسوس على ساق، فإذا اقتص من القاتل سلم الباقون ويصير ذلك سببًا لحياتهم ويلزم على الأول: الإضمار، وعلى الثاني: التخصيص، وأما الحياة الأخروية بناءًا على أن القاتل إذا اقتص منه في الدنيا لم يؤاخذ بحق المقتول في الآخرة، وعلى هذا يكون الخطاب خاصًا بالقاتلين، والظاهر أنه عام والظرفان إما خبران لحياة أو أحدهما خبر والآخر صلة له، أو حال من المستكن فيه. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيتين:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)}.
التفسير:
هذا حكم آخر، وسببه أن اليهود كانوا يوجبون القتل فقط، والنصارى يوجبون العفو فقط. فأما العرب فتارة كانوا يوجبون القتل وأخرى يوجبون الدية، لكنهم كانوا يظهرون التعدي في كل واحد من الحكمين. فإذا وقع القتل بين قبيلتين كان يقول الشريف للخسيس لنقتلن بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم، وبالرجل منا الرجلين منهم، وكانوا يجعلون جراحاتهم ضعف جراحات خصومهم، وربما زادوا على ذلك على ما يروى أن رجلًا قتل رجلًا من الأشراف ثم اجتمع أقارب القاتل عند والد المقتول فقالوا: ماذا تريد؟ قال: إحدى ثلاث. قالوا: وما هي؟ قال: تحيون ولدي، أو تملؤن داري من نجوم السماء، أو تدفعون إليّ جملة قومكم حتى أقتلهم، ثم لا أرى أني أخذت عوضًا. وكانوا يجعلون دية الشريف أضعاف دية الخسيس فبعث الله محمدًا بالعدل وسوّى بين عباده في القصاص. وقيل: نزلت في واقعة قتل حمزة. ومعنى كتب فرض وأوجب كقوله: {كتب عليكم الصيام} [البقرة: 183] ولفظة على أيضًا تفيد الوجوب كقوله: {ولله على الناس حج البيت} والقصاص أن تفعل بالإنسان مثل ما فعل من قولك اقتص فلان أثر فلان إذا فعل مثل فعله. ومنه القصة لأن الحكاية تساوي المحكي والمقص لتعادل جانبيه. وقوله: {في القتلى} أي بسبب قتل القتلى كقوله: «في النفس المؤمنة مائة إبل» أي بسببها. فظاهر الآية يدل على وجوب القصاص على جميع المؤمنين بسبب جميع القتلى إلا أنهم أجمعوا على أن غير القاتل خارج عن هذا العموم. وأما القاتل فقد دخله التخصيص أيضًا في صور كما إذا قتل الوالد ولده، والسيد عبده، والمسلم حربيًا أو معاهدًا، أو مسلم مسلمًا خطأ إلا أن العام الذي دخله التخصيص يبقى حجة فيما عداه. فإن قيل: لو جب القصاص لوجب إما على القاتل وليس عليه أن يقتل نفسه بل يحرم عليه ذلك، وإما على ولي الدم وهو مخير بين الفعل والترك، بل هو مندوب إلى الترك.
{والعافين عن الناس} [الأعراف: 134] وإما على أجنبي وليس ذلك بالاتفاق. وأيضًا القصاص عبارة عن التسوية، ووجوب رعاية المساواة على تقدير القتل لا يوجب نفس القتل. قلنا عن الأول إن المراد إيجاب إقامة القصاص على الإمام أو من يجري مجرى الإمام، لأنه متى حصلت شرائط وجوب القود فإنه لا يحل للإمام أن يترك القود وهو من جملة المؤمنين فالتقدير: يا أيها الأئمة كتب عليكم استيفاء القصاص إن أرادوا لي الدم أستيفاء.
ويحتمل أن يكون خطابًا مع القاتل لأنه كتب عليه تسليم النفس عند مطالبة الولي بالقصاص. وذلك أن القاتل ليس له أن يمتنع هاهنا وليس له أن ينكر، بل للزاني والسارق الهرب من الحدود، ولهما أيضًا أن يستترا بستر الله فلا يعترفا، فكان أمر القتل أشنع، وفيه حق الآدمي أكثر. وعن الثاني أن ظاهر الآية يقتضي إيجاب التسوية في القتل، والتسوية في القتل صفة للقتل، وإيجاب الصفة يقتضي إيجاب الذات. فالآية تفيد إيجاب القتل. ثم اختلفوا في كيفية المماثلة التي تجب رعايتها فقال الشافعي: إن كان قتله بقطع اليد قطعت يد القاتل، فإن مات عنه في تلك المرة وإلا حزت رقبته. وكذلك إن أحرق الأول بالنار أحرق الثاني، فإن مات في تلك المرة وإلا حزت رقبته.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه» ورضخ يهودي رأس جارية بالحجارة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يفعل به مثله. ولأنه لا يجوز أن يقال: كتبت التسوية في القتلى إلا في كيفية القتل، وحيث لم يستثن دخل. وأيضًا الحكم بالعموم يوجب التخصيص في بعض الصور كما لو قتله بالسحر فلا يقتل السحر لأنه محرم بل بالسيف. وكما لو قتل صغيرًا باللواط فإنه يقتل بالسيف على الأصح. ولو لم يحكم بالعموم لزم الإجمال، والتخصيص أهون منه. وأيضًا لو لم تفد الآية إلا إيجاب التسوية في أمر من الأمور فلا شيئين إلا وهما متساويان في بعض الأمور، فلا يستفاد من الآية شيء ألبتة. وقال أبو حنيفة: المراد بالمماثلة تماثل النفس ويتعين السيف لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا قود إلا بالسيف» واتفقوا على أن القاتل إذا لم يتب وأصر على ترك التوبة فإن القصاص مشروع في حقه عقوبة له من الله. أما إذا تاب فقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون عقوبة للدلائل الدالة على قبول التوبة {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده} [الشورى: 25] فما الحكمة في وجوب قتله؟ أجاب أصحابنا بأنه تعالى يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل. وقالت المعتزلة: إنما شرع ليكون لطفًا. وكيف يتصور هذا اللطف ولا تكليف بعد القتل؟ قالوا: فيه منفعة للقاتل من حيث إنه إذا علم أنه لابد وأن يقتل صار ذلك داعيًا له إلى الخير وترك الإصرار والتمرد، ومنفعة لولي المقتول من حيث التشفي، ومنفعة لسائر المكلفين من حيث الانزجار عن القتل.
قوله عز من قائل: {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} الباء للبدل نحو بعت هذا بذاك أي الحر مقتول بدل الحر. ثم فيه قولان: الأول ويروى عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وعطاء وعكرمة، أن لا يكون القصاص مشروعًا إلا بين الحرين وبين العبدين وبين الأنثيين، لأن الألف واللام تفيد العموم أي كل حر يقتل بحر.
فلو كان قتل حر بعبد مشروعًا لكان ذلك الحر مقتولًا بعير حر وهو يناقض الآية. ولأن هذا القول خرج مخرج البيان لقوله: {كتب عليكم القصاص} وإيجاب القصاص على الحر بقتل العبد إهمال للتسوية فلا يكون مشروعًا وهو يناقض الآية، وإلى هذا ذهب الشافعي ومالك وقالا: لما قتل العبد بالعبد فلأن يقتل بالحر وهو فوقه أولى، وكذا القول في قتل الأنثى بالذكر. وأما قتل الذكر بالأنثى فليس فيه إلا الإجماع، وكأن سنده أن الذكورة والأنوثة فضيلتان كالعلم والجهل والشرف والخسة، فكما أنه لم يفرق بين العالم والجاهل فكذلك بين الذكر والأنثى.
ويروى عن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن «أن الذكر يقتل الأنثى» القول الثاني ويروى عن سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي وقتادة والنوري وهذا مذهب أبي حنيفة، أن الحر بالحر لا يفيد الحصر ألبتة بل يفيد شرع القصاص بين المذكورين من غير أن يكون فيه دلالة على حال سائر الأقسام. لأن قوله: {والأنثى بالأنثى} يقتضي قصاص الحرة بالمرأة الرقيقة، فلو كان قوله: {الحر بالحر والعبد بالعبد} مانعًا من ذلك تناقض.
وأيضًا قوله: {كتب عليكم القصاص} جملة مستقلة وقوله: {الحر بالحر} تخصيص لبعض جزئيات تلك الجملة بالذكر، فلا يمنع من ثبوت الحكم في سائر الجزئيات. ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى: {النفس بالنفس} وقوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» وقد يقتل الجماعة بواحد فدل على أن التفاضل غير معتبر في الأنفس ثم إنهم قالوا: الفائدة في تخصيص هذه الجزئيات بالذكر ما ذكرنا في سبب النزول أنهم كانوا يقتلون بالعبد منهم الحر من قبيلة القاتل فمنعوا عن ذلك. وأيضًا نقل عن علي رضي الله عنه والحسن البصري أن الغرض أن هذه الصورة هي التي يكتفى فيها بالقصاص.
أما في سائر الصور وهي ما إذا كان القصاص واقعًا بين الحر والعبد وبين الذكر والأنثى فهناك لا يكتفي بالقصاص، بل لابد من التراجع. فأيما حر قتل عبدًا فقود به، فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه بشرط أن يسقطوا قيمة العبد من دية الحر ويؤدوا إلى أولياء الحر بقية ديته، وإن قتل عبد حرًا فهو به فإن شاء أولياء الحر قتلوا وأسقطوا قيمة العبد من دية الحر وأدوا بعد ذلك إلى أولياء الحر بقية ديته، وإن شاءوا أخذوا كل الدية وتركوا قتل العبد. وإن قتل رجل امرأة فهو بها قود، فإن شاء أولياء المرأة قتلوه وأدوا بعد ذلك نصف ديته إلى أوليائه، وإن شاءوا تركوا قتله وأخذوا ديتها.
وإذا قتلت امرأة رجلًا فهي به قود، فإن شاء أولياء الرجل قتلوها وأخذوا نصف الدية، وإن شاءوا تركوها وأخذوا كل الدية، فعلى هذا الغرض من الآية أن الاكتفاء بالقصاص مشروع بين الحرين والعبدين والذكرين والأنثيين، فأما عند اختلاف الجنس فالاكتفاء بالقصاص غير مشروع.
قوله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيء} المعنى فمن عفي له من جهة أخيه شيء من العفو كقولك سير بزيد بعض السير وطائفة من السير ولا يصح أن يكون شيء في معنى المفعول به لأن عفا لا يتعدى إلى مفعول به إلا بواسطة. فإن قيل: إن عفا يتعدى بعن لا باللام فما وجه قوله: {فمن عفي له} فالجواب أنه يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب فيقال: عفوت عن فلان وعن ذنبه. قال تعالى: {عفا الله عنك} [التوبة: 23] فإذا تعدى إلى الذنب وإلى الجاني معًا قيل عفوت لفلان عما جنى كما تقول غفرت له ذنبه وتجاوزت له عنه. فمعنى الآية فمن عفي له عن جنابته. فاستغنى عن ذكر الجناية. فإنما قيل شيء من العفو ليعلم أنه إذا عفي له طرف من العفو وبعض منه بأن يعفى عن بعض الدم أو عفا عنه بعض الورثة تم العفو وسقط القصاص ولم يجب إلا الدية. وأخوه هو ولي المقتول وإنما قيل له أخوه لأنه لابسه من قبل أنه ولي الدم ومطالبه به كما تقول للرجل قل لصاحبك كذا إذا كان بينهما أدنى تعلق. أو ذكره بلفظ الأخوة ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية والإسلام. وقد يستدل بهذا على أن الفاسق مؤمن لأنه تعالى أثبت الأخوة بين القاتل وبين ولي الدم، ولا شك أن هذه الأخوة بسبب الدين {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات: 10] مع أن قتل العمد العدوان بالإجماع من الكبائر. وأيضًا إنه تعالى ندب إلى العفو عن القاتل، والعفو إنما يليق عن المؤمن. ويحتمل أن يجاب بأن القاتل قبل إقدامه على القتل كان مؤمنًا فلعله تعالى سماه مؤمنًا بهذا التأويل، وبأن القاتل قد يتوب وعند ذلك يكون مؤمنًا. ثم إنه تعالى أدخل غير التائب فيه على سبيل التغليب. وأيضًا لعل الآية نازلة قبل أن يقتل أحد أحدًا. ولا شك أن المؤمنين أخوة قبل الإقدام على القتل. وأيضًا الظاهر أن الفاسق يتوب، وعلى هذا التقدير يكون ولي المقتول أخًا له. وأيضًا يجوز أن يكون قد جعله أخًا له في النسب كقوله تعالى: {وإلى عاد أخاهم هودًا} [هود: 50] {فاتباع بالمعروف} أي فليكن اتباع، أو فالأمر، أو فحكمه اتباع. أو فعلية اتباع فقيل: على العافي اتباع بالمعروف بأن يشدد في المطالبة بل يجري فيها على العادة المألوفة، فإن كان معسرًا فالنظرة وإن كان واجدًا لعين المال فإنه لا يطالبه بالزيادة على قدر الحق، وإن كان واجدًا بغير المال الواجب فالإمهال إلى أن يستدل وأن لا يمنعه بسبب الاتباع عن تقديم الأهم من الواجبات {و} إلى المعفو عنه {أداء إليه بإحسان} بأن لا يدعي الإعدام في حال الإمكان ولا يؤخره مع الوجود، ولا يقدم ما ليس بواجب عليه، وأن يؤدي ذلك المال على بشر وطلاقة وقول جميل من غير مطل وبخس، هذا قول ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد.
وقيل: هما على المعفو عنه فإنه يتبع عفو العافي بمعروف ويؤدي ذلك المعروف إليه بإحسان {ذلك} قيل: إشارة إلى الاتباع والأداء. وعن ابن عباس: وهو الأقرب إنه إشارة إلى الحكم بسرع القصاص والدية والعفو، فإن هذه الأمة خيرت بينهن توسعة وتيسيرًا، ولم يكن لليهود إلا القصاص وللنصارى إلا العفو وإثبات الخيرة فضل من الله ورحمة في حقنا، لأن ولي الدم قد تكون الدية آثر عنده من القود إذا كان محتجًا إلى المال، وقد يكون القود آثر عنده إذا كان راغبًا في التشفي ودفع شر القاتل عن نفسه. وقد يؤثر ثواب الآخرة فيعفو عن القصاص وعن بدله جميعًا وهو الدية. {فمن اعتدى بعد ذلك} التخفيف فتجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل مع قتل القاتل أو دونه أو قتل بعد أخذ الدية والعفو فقد كان لولي في الجاهلية يؤمن القاتل بقبوله الدية ثم يظفر به فيقتله {فله عذاب أليم} نوع من العذاب الأليم في الآخرة. وعن قتادة: العذاب الأليم أن يقتل لا محالة ولا يقبل من الدية كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا أعافي أحدًا قتل بعد أخذه الدية» وهو مذهب الحسن وسعيد بن جبير وضعفه غيرهم. ولما كانت الآية مشتملة على إيلام العبد الضعيف وأنه لا يليق بكمال رحمته عقبها بقوله: {ولكم في القصاص حياة}. قال المفسرون: القصاص إزالة الحياة، وإزالة الشيء لا تكون نفس ذلك الشيء فالمراد لكم في شرع القصاص حياة وأيّ حياة. وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني بكر بن وائل. وكان يقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة، ويحتمل أن يقال: نفس القصاص سبب لنوع من الحياة وهي الحاصلة بالارتداع عن القتل، لأن القاتل إذا قيد منه ارتدع من كان يهم بالقتل فلم يقتل ولم يقتل فكان القصاص سبب حياة نفسين. وقرأ أبو الجوزاء {ولكم في القصص حياة} أي فيما قص عليكم من حكم القتل والقصاص. وقيل: القصص القرآن أي لكم في القرآن حياة للقلوب. وهذا وقد اتفق علماء البيان على أن قوله سبحانه: {ولكم في القصاص حياة} بلغ في الإيجاز نهاية الإعجاز، وذلك أن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثيرة كقولهم قتل البعض أحياء للجميع وأكبروا القتل وأوجز ذلك قولهم القتل أنفى للقتل.
والترجيح مع ذلك للآية من وجوه:
الأول أن قولهم لا يصح على العموم لأن القتل ظلمًا ليس أنفى للقتل قصاصًا بل أدعى له. ولو خصص فقيل القتل قصاصًا أنفى للقتل ظلمًا طال.
والآية تفيد هذا المعنى من غير تقدير وتكلف.
الثاني: أن القتل قصاصًا لا ينفي القتل ظلمًا من حيث إنه قتل بل من حيث إنه قصاص. وهذه الحيثية معتبرة في الآية لا في كلامهم.
الثالث: أن الحياة هي الغرض الأصلي ونفي القتل إنما يراد لحصول الحياة. فالتنصيص على المقصود الأصلي أولى.
الرابع: التكرار من غير ضرورة مستهجن وأنه في كلامهم لا في الآية.
الخامس: أن الحروف الملفوظة التي يعتمد عليها في اعتبار الوجازة لا المكتوبة هي في الآية عشرة، وفي كلامهم أربعة عشر.
السادس: أن الأغلب في كلامهم أسباب خفاف وذلك مما يخل بسلاسة التركيب، والآية مع غاية وجازتها فيها السبب والوتد والفاصلة.
السابع: ظاهر قولهم يقتضي كون الشيء سببًا لانتفاء نفسه وهو محال، وفي الآية جعل نوع من القتل وهو القصاص سببًا لنوع من الحياة ولا استبعاد فيه لظهور التغاير.
الثامن: المطابقة مرعية في الآية لمكان التضاد بين لفظي القصاص وحياة بخلاف كلامهم.
التاسع: اشتمال الآية على لفظ يصلح للتفاؤل وهو الحياة، بخلاف كلامهم فإنه يشتمل على نفي اكتنفه قتلان وأنه لكما يليق بهم.
العاشر: اشتمال الآية على اسمين وأداة، واشتمال كلامهم على ثلاثة أسماء وأداة. وإن اعتبرت أداة التعريف ففي الآية واحدة وفي كلامهم ثنتان، وإن اعتبر التنوين في الآية تقاصت الأدوات وتبقى زيادة الأسماء بحالها، على أن أفعل التفضيل إذا لم يكن فيه اللام والإضافة يستعمل بمن. فتقدير كلامهم القتل أنفى للقتل من كل شيء فأين الوجازة {يا أولي الألباب} يا ذوي العقول وأولو جمع لا واحد له من لفظه، وواحده ذو بمعنى صاحب. وأولات للإناث واحدتها ذات بمعنى صاحبة قال تعالى: {وأولات الأحمال} [الطلاق: 4] وإعراب أولو كإعراب جمع المذكر السالم. وزادوا في أولي واوًا فرقًا بينها وبين إلى وأجرى أولو عليه. واللب العقل، ولب النخلة قلبها، وخالص كل شيء لبه. خاطب العقلاء الذين يتفكرون في العواقب ويعرفون جهات الخوف فلا يرضون بإتلاف أنفسهم لإتلاف غيرهم إلا في سبيل الله {لعلكم تتقون} يتعلق بمحذوف أي أريتكم ما في القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس لتكونوا على بصيرة في إقامته، راجين أن تعملوا عمل أهل التقوى في الحكم به. وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة، أو لعلكم تتقون نفس القتل الخوف القصاص.
عن الحسن والأصم: وقد بقي على الآية بحث، وهو أنه سئل إذا صح أن المقتول إن لم يقتل فهو يموت لأن المقدر من عمره ذلك القدر، وكذا إذا هم إنسان بقتل آخر فارتدع خوفًا عن القصاص فإن ذلك الآخر يموت وإن لم يقتله ذلك الإنسان لأن كل وقت صح وقوع قتله صح وقوع موته، فكيف يفيد شرع القصاص حياة؟ والجواب أنه تعالى قد جعل لكل شيء سببًا يدور مسببه معه وجودًا وعدمًا. وشرعية القصاص مما جعلها تعالى سببًا لحياة من أراد حياته بعد أن تصور الهامّ قتله، وذلك بأن تذكر القصاص فارتدع عما هم به. ففائدة شرع القصاص هي فائدة سائر الأسباب والوسائط ومنكر فائدتها. وكلا الإنكارين مذموم وصاحبهما عند العقلاء ملوم والله أعلم. اهـ.